الدرس الأول من شرح كتاب العالم والمتعلم
في درسه الأول من كتاب العالم والمتعلم للإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه وأرضاه بالزاوية التجانية الكبرى بالمغربلين قال فضيلة الشيخ أحمد الشريف :
(إن الإمام الأعظم رضي الله عنه كان من التابعين بالإجماع، لا خلاف في ذلك بين أحد من أهل العلم، فقد أدرك رضي الله عنه الصحابة وروى عن نحو سبعة منهم، كساداتنا: أنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى وعائشة العجردية رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة الكرام، وقد أجازنا مشايخنا رضي الله عنهم بأحاديات الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه بالأسانيد المتصلة الموصلة، والأحاديات هي الأحاديث التي ليس بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين أبي حنيفة فيها سوى راو واحد من الصحابة رضي الله عنهم، فالإمام الأعظم من أكابر أئمة السلف بالإجماع.
وإن هذا الإمام قبل أن يُعرف بالفقه والاجتهاد كان قد تبحر في علم العقيدة والتوحيد حتى بلغ فيه ذروة سنامه، وناظر أهل الزيغ والإلحاد في زمانه، وألزمهم الحجج البينات، وقد ترك لنا هذا الإمام المبارك خمسة رسائل في علم العقيدة والتوحيد أو كما يُطلق عليه أبو حنيفة رضي الله عنه “الفقه الأكبر” وهي رسائل مشهورة ثابتة بالأسانيد التي كالشمس منا إليه رضي الله عنه كما يبين تلك الأسانيد بالتفصيل شيخ شيخنا الإمام: محمد زاهد الكوثري رضي الله عنه في كتاباته، ولا التفات إلى من ادعى عدم صحة ثبوت بعض هذه الرسائل إليه، فقد ثبتت واستفاضت عنه رضي الله عنه ونقلت عنه عبر القرون، وضُمنت كتب السادة الحنفية في شتى الفنون في نحو ٦٠ كتابا من كتب المتقدمين من أصحابنا كما يبين ذلك ويثبته بالأدلة القاطعة وأسماء الكتب والمصنفين العلامة القاضي البياضي في مقدمة كتابه الماتع إشارات المرام.
وممن رووا هذه الرسائل عن الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه إمامُ الهدى شيخ أهل السنة أبو منصور الماتريدي رضي الله عنه وأرضاه “تـ ٣٣٣ هـ”، فهو يروي هذه الرسائل بسند كفلق الصبح إلى الإمام الأعظم رضي الله عنه.
وإننا نجد أن هذا الإمام العظيم أبا منصور الماتريدي رضي الله عنه قد شيد مباني علم العقيدة في مدرسته الكلامية الأصيلة على الأسس والأركان التي وضعها أبو حنيفة رحمه الله، ومن تمرس بكتاب التوحيد للإمام أبي منصور رحمه الله أدرك ذلك من الوهلة الأولى عند مطالعة رسائل الإمام الأعظم والمقارنة بين الناتج العلمي الكلامي للشيخين، فحقيقة الأمر أن أبا منصور رضي الله عنه شارح ومهذب ومستدل ومنقح لكلام أبي حنيفة رضي الله عنه، وتارة نراه متخيرا بين فهمين محتملين لكلام الإمام، وتارة أخرى نراه مجتهدا من عند نفسه في قضايا لم يصرح بها الإمام، ونراه في اجتهاداته تلك ملتزما بنفس قواعد وأصول الإمام أبي حنيفة السُّنية النبوية السلفية في الوصول للأحكام الشرعية الاعتقادية من أدلتها اليقينية.
وقد سار العلماء الحنفية الماتريدية والتزموا هذا الصراط المستقيم، وتمسكوا بعرى هذا الحبل القويم الممتد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أصحابه رضي الله عنهم مرورا بالشيخين الجليلين إلينا، فترى كتاب التوحيد للإمام الماتريدي، وسائر مصنفات السادة الماتريدية تلتزم آراء الإمام الأعظم وتسير على نهجه وتعالج قضايا رسائله شرحا وبيانا واستدلالا ومحاجة ودفاعا، أو هي تصل للأحكام الشرعية الاعتقادية فيما لا نص فيه عن الإمام من خلال القواعد والأصول الكبرى التي صرح بها أبو حنيفة، أو تُستنبط وتُستقرأ من أبي حنيفة رضي الله عنه، أو نجد كتاباتهم ترجح أحد فهمين مُحتمَلين لكلام أبي حنيفة في قضية من القضايا العقدية.
وها نحن نرى هذا واضحا في قراءتنا اليوم لكتاب العالم والمتعلم للإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه، فإننا نجد الإمام يفتتح قضايا علم العقيدة بما يمكن أن نعنونه بـ “مشروعية دراسة علم التوحيد” فنرى الإمام يرد على محرمي تعلم هذا العلم بالردود الحاسمة، ويرد على من ادعى أن هذا العلم محرم لعدم تطرق الصحابة الكرام إليه بالحجج الساطعة.
ثم نجد أن الإمام الماتريدي وسائر أئمة الماتريدية من بعده كأبي معين النسفي صاحب التبصرة، ونور الدين الصابوني، وأبي البركات النسفي صاحب الاعتماد، حتى البياضي في إشارات المرام، وغيرهم قد افتتحوا أكثر مصنفاتهم بالبحث في نفس المبحث، أو جعلوا هذا البحث ضمن مطالع كتبهم، بل نقل بعضهم أحيانا عبارات الإمام من العالم والمتعلم وشرحوها واستدلوا بها ودللوا عليها.
ثم نجد أن أبا حنيفة رضي الله عنه ينتقل بنا بعد ذلك مباشرة إلى مبحث جديد يمكن أن نعنونه بـ “نظرية المعرفة عند أهل السنة والجماعة”، ومن طالع كتاب التوحيد للإمام أبي منصور، وكتب أصحابه من بعده إلى أن نصل إلى مختصر وزبدة ذلك كله في متن العقائد النسفية للإمام أبي حفص عمر النسفي رحمه الله؛ يجد أن الماتريدي وأعلام مدرسته من بعده قد جعلوا هذه القضية تقدمة لكل كتاباتهم ومصنفاتهم الشهيرة المعتمدة في علم العقيدة، وقد لخص لنا محصل ذلك كله أبو حفص عمر النسفي رحمه الله في متنه الشهير بقوله: “قال أهل الحق: حقائق الأشياء ثابتة، والعلم بها متحقق خلافا للسوفسطائية، وأسباب العلم للخلق ثلاثة…….” إلخ.
فنحن نرى أن أصول هذه القضايا التي صاغها أبو حفص اختصارا بهذه الصياغة، والتي صارت بعد ذلك قواعد مؤسسة لمذهب أهل السنة والجماعة جميعا في نظريتهم للمعرفة: ما هي إلا مأخوذة بجلاء من كلام الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه هنا في العالم والمتعلم.
فالخلاصة أننا والحمد لله على هدى من الله في عقيدتنا، وسندنا متصل إلى السلف الصالح في مذهبنا العقدي، ونحن نتحدى أهل الزيغ والضلال من الوهابية مدعي السلفية زورا، والروافض، وغيرهم أن يخرجوا لنا سندا كهذا إلى السلف الصالح رضي الله عنهم في التوحيد والعقيدة، ونتحداهم أن يظهروا لنا ناتجا علميا خدمه ألوف مؤلفة من كبار العقول في تاريخ الإسلام من كبار الأئمة كهذا الناتج العلمي الذي بين أيدينا). أهـ.