لمحات من حياتي (الجزء الأول)
في مثل هذا اليوم المنصرم، السابع عشر من شهر الله المحرم، عام اثنتين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المشرفة؛ ولد الفقير إلى رحمة الله أحمد محمود حسن حسين علي الشريف، الحسيني نسبا، الحنفي عقيدة وفقها؛ بمستشفى الملك خالد بمدينة الخرج بالمملكة العربية السعودية.
وبها ترعرع ونشأ في كنف والديه المصريين إلى أن شاء الله رجوع الأسرة إلى الوطن الحبيب جمهورية مصر العربية سنة أربعة عشر وألف وأربعمائة من الهجرة.
ثم كتب الله له أن يلحقه والده بالأزهر الشريف ابتغاء حفظه للقرآن الكريم، فالتحق بالصف الخامس الإبتدائي الأزهري بمعهد مصر الجديدة الابتدائي المجاور لمسجد الخلفاء الراشدين بعد ميدان المحكمة بمصر الجديدة، وهو الواقع مباشرة أمام مسكن الرئيس الأسبق قبل توليه رئاسة الجمهورية: محمد حسني مبارك رحمه الله.
وفي هذا المعهد يشاء الله أن يتم هذا الصبي حفظ أربعة عشرة جزءا من القرآن من سورة النحل إلى سورة البقرة في عامين ( الصف الخامس والسادس الإبتدائي ) على يد شيخته الأستاذة أماني، وشيخه المحفظ الشهير مخرج الأجيال الشيخ أحمد المدرس بالمعهد حينئذ، ويكمل بعد ذلك ختم القرآن في المراحل الدراسية التالية بعد الإبتدائية.
ثم ينتقل هذا الولد بعد ذلك إلى معهد مصر الجديدة الإعدادي بميدان الحجاز بمصر الجديدة والذي كان أيضا معهدا للقراءات في الفترة المسائية، ليتم تلقي العلوم الشرعية والكونية في المرحلة الإعدادية، مختارا المذهب الحنفي ليكون مذهبه الفقهي، فقد كانت المذاهب الأربعة اختيارية في هذا المعهد، وكان أساتذة المذاهب خاصة الثلاثة الحنفي والمالكي والشافعي في الأيام الأولى من الدراسة يدخلون الفصول للطلاب الجدد يعرفونهم بمناهج الدراسة ويبين لهم كل أستاذ مذهبٍ مزايا هذا المذهب الفقهي، فإذ بالصبي أحمد محمود بعد أن سمع منهم جميعا وقرأ تراجم الأئمة الثلاثة في كتب المعهد يختار مباشرة مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه.
ويرجع للبيت مخبرا والده بخبر اختياره دراسة المذهب الحنفي؛ فسر الوالد رحمه الله بذلك وقال: هو مذهب جدك، وجده هو العالم الأزهري المجاور الشيخ حسن الشريف رحمه الله، ليتبين أنه مذهب أكثر أهل قبيلته في سوهاج بالصعيد حيث كان معظمهم من علماء الأزهر الشريف خاصة من الأجيال السابقة على جيل الوالد رحمه الله.
وتبدأ بعد ذلك الدراسة الشيقة في المعهد الإعدادي حيث وفقه الله وأكرمه بأساتذة كان لهم أثرا باقيا عليه حتى اليوم منهم:
أستاذ الفقه الحنفي الأستاذ الشيخ محمود الأصيل الذي حفظه مع الطلاب وشرح لهم متن نور الإيضاح في الفقه الحنفي ، وكان الأستاذ محمود الأصيل رحمه الله – حيا أو ميتا- رجلا طيبا رقيق القلب شفوقا محبا للتدريس وميسور الحال يسكن في ناحية راقية من مصر الجديدة بجوار المعهد إلا أن الناظر له للوهلة الأولى خاصة إن كان صبيا صغيرا يشعر بالرعب فقد كان عملاقا جدا إذا سار في الطريق التفت إليه كل الناس تعجبا من طوله وعرضه، ورغم تلك الهيئة الظاهرية إلا أنه كان في حبه للطلاب كالأب الشفوق، يشرح لهم ويحفظهم المتن فكأنما سقى لهم ماء الورد، وإذا أخطأ طالب ضربه ضربة خفيفة بعصاه للتنبيه والزجر. فكان هذا الأستاذ الصالح الشيخ الأول الذي تلقى منه أحمد الشريف الفقه الحنفي وكان سببا سخره الله له ليشرب قلبه بحب هذا العلم الشريف. ثم يدرس بعد ذلك في الفقه الحنفي تيسير اللباب شرح القدوري في الصفين الثاني والثالث الإعداديين.
ومنهم الأستاذ ثعيلب – إن لم تخني الذاكرة- مدرس المطالعة والنصوص والنحو، وكان مدرسا حاذقا للغة العربية، حبب لهذا الصبي علم اللغة فدرس في المرحلة الإعدادية من النحو تهذيب الأزهرية، وقطر الندى.
ومنهم أستاذ التحق بهيئة التدريس لاحقا وكان كل شأنه عجبا، فقد كان ذا لحية طويلة، رياضيا قويا ممارسا للفنون القتالية كما كان يخبر بنفسه الطلاب ممازحا، يؤدي أحيانا بعض حركات الكراتيه في الفصل، وكان إذا غضب يقول “أنا لسه خارج من المعتقل”، ليتبين أنه عضو تائب من أعضاء الجماعات الإرهابية المسلحة المنتشرة بمصر في تلك الفترة وقد أفرج عنه في المراجعات الفكرية وعاد إلى عمله كمدرس للمرحلة الإعدادية بالأزهر الشريف ويا للعجب!!!
والأعجب أنه اختير لتدريس مادة العقيدة من تيسير الخريدة البهية للإمام الدردير المقرر على الطلاب في السنين الثلاثة!!!
وقد كان الأستاذ يشرح الكتاب لينقضه رأسا على عقب، فقد كان وهابي العقيدة بامتياز كشأن سائر أعضاء الجماعات المنتشرة حينها في ربوع مصر ابتداء من الإخوان مرورا بالجماعة الإسلامية وانتهاء بالتفكير والهجرة.
والأعجب أن ذلك الصبي كان قد قرأ الكتاب وفهمه وكان لا يستسيغ تفسير ذاك الأستاذ وفهمه لنصوص المتن والشرح، فكان يقوم معترضا بشدة على الأستاذ ولم يتصور عقل هذا الصبي في تلك المرحلة المبكرة من حياته جواز مقولات التشبيه والتحديد والتكييف والتجسيم التي كان يحاول الأستاذ حشو رؤوس طلابه بها.وإذ بطالب في ذلك الفصل ذاته اسمه محمود، وكان من أسرة كما تسمى “سلفية” تلقن في البيت وربما خارجه نفس عقيدة الأستاذ الخارج حديثا من المعتقل! يقوم هو أيضا كل مرة مؤيدا للأستاذ على زميله وصديقه في الفصل.فكانت حصة التوحيد تتحول إلى مناظرة، فيها الطالب أحمد محمود من جهة ينافح عن عقيدة الأزهر الشريف التي صاغها الإمام الدردير في الخريدة منذ قرنين والمقررة في الكتاب، وعلى الجهة الأخرى الأستاذ ومعه الطالب محمود ينقضان تماما كل ما يتعلق بالإلهيات مما قرر في الكتاب، ويحتد النقاش بين الفريقين كل حصة وباقي الفصل في حيرة من أمره لا يدري الطلاب ماذا يصنعون.ليخرج ذلك الصبي بنتيجة عجيبة خلاصتها: الأزهر شئ وبعض أساتذة المعهد شئ آخر، ولتترسخ تلك القناعة لديه وتؤثر عليه ربما إلى مماته.
ومنهم أستاذ العلوم الأستاذ: بهاء والذي كان يعشق تخصصه ويدرس مادته – خاصة الكيمياء تخصصه الأصلي- بإتقان ومحبة حتى أثر ذلك جدا في الطالب أحمد محمود فتعلق جدا بهذا الأستاذ المخلص وترك أثرا لا يمحى من قلبه، ليقابله ومعه ابنته قَدَرا بعد ذلك بنحو عشرين عاما في معرض الكتاب بالقاهرة ويتعرف عليه على الفور ويذهب إليه فورا بالزي الأزهري: أستاذ بهاء السلام عليكم، أنا أحمد محمود تلميذك في المعهد الإعدادي، هل تذكرني؟ وطبعا لم يتذكره الأستاذ بهاء إلا أنه طار فرحا لما وجد ثمرة عمله بعد خروجه على المعاش باقية تدعو له بالبركة والصحة والسعادة وتكرمه وتبجله وتسديه ولو جزءا يسيرا من حقه. ويودع بعد ذلك التلميذ أستاذه بعدما وفاه حقه من التكريم والشكر والتقدير، ليسمعه يقول لابنته الشابة: شايفة يا بنتي الشيخ ده كان تلميذي، بكرة تكبري وانت كمان تكرمي اساتذتك وتفتكريهم.
وفي هذا المعهد وعلى يد أساتذة العلوم الشرعية يتقن الطالب أحمد محمود مبادئ العلوم الشرعية كعلم التجويد، والتفسير، والحديث.
ومما يستحيل نسيانه من ذكريات المعهد الإعدادي عميد المعهد الأستاذ الشيخ: محمود شتا، وما أدراك من محمود شتا.كان رحمه الله حيا أو ميتا معروفا بشدته وصرامته، وكان ذكر اسمه كافيا لترتعد فرائص الطلاب ويلزموا مجالسهم كل في دكته في هدوء وسكينة، وكان الطالب أحمد محمود من شدة إرهاقه من بأس الشيخ العميد وصرامته يعد الأيام والليالي ليتخرج وينتقل من المعهد الإعدادي إلى المعهد الثانوي الملاصق، فلم يكن لينقل قدمه سوى خطوة، فكل ما بين المعهدين سور وباب، ومع تلك الخطوة باب الفرج والعتق من سطوة الشيخ العميد، فكانت تلك الخطوة أمل حياته وسبيل خلاصه.فإذ بالشيخ عميد المعهد يكرمه الله تعالى بترقية وينقل على إثرها وسبحان الله في نفس سنة تخرج الطالب أحمد محمود ليكون عميدا للمعهد الثانوي المجاور!! وتطير الآمال وتتحطم الأحلام.
المعهد العسكري سابقا، والذي سمي بعد ذلك معهد مصر الجديدة الثانوي الأزهري والذي كان معروفا باختلال النظام فيه جدا فنقلوا إليه الشيخ محمود شتا لما عرف عنه من القوة والقدرة على الضبط والربط.
وفيه تبدأ حياة جديدة لأربع سنوات كاملة هي سنون المرحلة الثانوية حينها فقد كانت الثانوية الأزهرية أربع سنوات.ومرت وكأنها أربعون سنة.
يتبع.
أحمد الشريف